فصل: قال الألوسي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال الألوسي:

{يا أيها الناس أَنتُمُ الفقراء إِلَى الله}.
في أنفسكم وفيما يعن لكم من أمر معهم أو خطب ملم، وتعريف {الفقراء} للجنس أو للاستغراق إذ لا عهد، وعرف كذلك للمبالغة في فقرهم كأنهم لكثرة افتقارهم وشدة احتياجهم هم الفقراء فحسب وأن افتقار سائر الخلائق بالنسبة إلى فقرهم بمنزلة العدم وذلك قوله تعالى: {وَخُلِقَ الإنسان ضَعِيفًا} [النساء: 8 2] ولا يرد الجن إذ هم لا يحتاجون في المطعم والملبس وغيرهما كما يحتاج الإنسان وضعفهم ليس كضعفه فلا حاجة إلى إدخالهم في الناس تغليبًا على أنه قيل لا يضر ذلك إذ الكلام مع من يظهر القوة والعناد من الناس، والقول أن القصر إضافي بالنسبة إليه تعالى لا يخفى ما فيه، وقال صاحب الفرائد: الوجه أن يقال والله تعالى أعلم المراد الناس وغيرهم وهو على طريقة تغليب الحاضر على الغائب وأولى العلم على غيرهم، وهو بعيد جدًّا.
وقال العلامة الطيبي: الذي يقتضيه النظم الجليل أن يحمل التعريف في الناس على العهد وفي الفقراء على الجنس لأن المخاطبين هم الذين خوطبوا في قوله تعالى: {ذَلِكُمُ الله رَبُّكُمْ لَهُ الملك} [فاطر: 3 1] الآية أي ذلكم المعبود هو الذي وصف بصفات الجلال لا الذين تدعون من دونه وأنتم أشد الخلائق احتياجا إليه عز وجل ولا يخلو عن حسن {والله هُوَ الغنى} عن كل شيء لا غيره {الحميد} المنعم على جميع الموجودات المستحق بانعامه سبحانه للحمد، وأصله المحمود وأريد به ذلك على طريق الكناية ليناسب ذكره بعد فقرهم إذ الغني لا ينفع الفقير إلا إذا كان جوادًا منعمًا ومثله مستحق للحمد، وهذا كالتكميل لما قبله كما في قول كعب الغنوي:
حليم إذا ما الحلم زين أهله ** مع الحلم في عين العدو مهيب

ويدخل في عموم المستغنى عنه المخاطبون وعبادتهم، وفي كلام الطيبي رائحة التخصيص حيث قال ما سمعت نقله وهو سبحانه غني عنكم وعن عبادتكم لأنه تعالى حميد له عباد يحمدونه وإن لم تحمدوه أنتم والأولى التعميم.
وما روي في سبب النزول من أنه لما كثر من النبي صلى الله عليه وسلم الدعاء وكثر الاصرار من الكفار قالوا لعل الله تعالى محتاج لعبادتنا فنزلت لا يقتضي شيئًا من التخصيص في الآية كما لا يخفى.
{إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ} أي إن يشأ سبحانه إذهابكم أيها الناس والاتيان بخلق جديد يذهبكم {وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ} بعالم غير الناس لا تعرفونه هذا إذا كان الخطاب عاما أو إن يشأ يذهبكم أيها المشركون أو العرب ويأت بخلق جديد ليسوا على صفتكم بل مستمرون على طاعته وتوحيده، وهذا إذا كان الخطاب خاصًا، وتفسير الجديد بما سمعت مروي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما ويًا ما كان فالجلمة تقرير لاستغنائه عز وجل.
{وَمَا ذلك} أي ما ذكر من إهابهم والاتبيان بخلق جديد {عَلَى الله بِعَزِيزٍ} أي يصعب فإن أمره تعالى إذا أراد شيئًا أن يقول له كن فيكون.
وإن كان في الناس تغليب الحاضر على الغائب وأولى العلم على غيرهم وكان الخطاب هنا على ذلك الطرز وقلنا إن الآية تشعر بأن ما يأتي به سبحانه من العالم أبدع أشكل بحسب الظاهر قول حجة الإسلام ليس في الإمكان أبدع مما كان.
وأجيب بأن ذلك على فرض وقوعه داخل في حيز ما كان وهو مع هذا العالم كبعض أجزاء هذا العالم مع بعض أو بأن الأبدعية المشعور بها بمعنى والأبدعية في كلام حجة الإسلام بمعنى آخر فتدبر.
{وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ} أي لا تحمل نفس آثمة {وِزْرَ أخرى} أي اثم نفس أخرى بل تحمل كل نفس وزرها.
ولا منافاة بين هذا وقوله تعالى في سورة العنكبوت {وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالًا مَّعَ أَثْقَالِهِمْ} [العنكبوت: 3 1] فإنه في الضالين المضلين وهم يحملون اثم اضلالهم مع اثم ضلالهم وكل ذلك آثامهم ليس فيها شيء من آثام غيرهم، ولا ينافيه قوله سبحانه {مَّعَ أَثْقَالِهِمْ} لأن المراد بأثقالهم ما كان بمباشرتهم وبما معها ما كان بسوقهم وتسببهم فهو للمضلين من وجه وللآخرين من آخر {وَإِن تَدْعُ مُثْقَلَةٌ} أي نفس أثقلتها الاوزار {إلى حِمْلِهَا} لالذي أثقلها ووزرها الذي بهضها ليحمل شيء منه ويخفف عنها، وقيل: أي إلى حمل حملها {لاَ يُحْمَلْ مِنْهُ شَىْء} لم تجب بحمل شيء منه، والظاهر أن {وَلاَ تَزِرُ} الخ نفى للحمل الاختياري تكرمًا من نفس الحامل ردًا لقول المضلين {وَلْنَحْمِلْ خطاياكم} [العنكبوت: 2 1] ويؤيده سبب النزول فقد روي أن الوليد بن المغيرة قال لقوم من المؤمنين اكفروا بمحمد صلى الله عليه وسلم وعلى وزركم فنزلت.
وهذا نفى للحمل بعد الطلب من الوازرة أعم من أن يكون اختيارًا أو جبرًا وإذا لم يجبر أحد على الحمل بعد الطلب والاستعانة علم عدم الجبر بدونه بالطريق الأولى فيعم النفي أقسام الحمل كلها، وكذا الحامل أعم من أن يكون وازرًا أم لا، وجاء العموم من عدم ذكر المدعو ظاهرًا، وقد يقال مع ذلك: إن في الأولى نفي حمل جميع الوزر بحيث يتعرى منه المحمول عنه، وفي الثاني نفي التخفيف فلا اتحاد بين مضموني الجملتين كما لا يخفى، وقيل في الفرق بينهما: إن أول نفي الحمل إجبارًا والثاني نفي له اختيارًا، وتعقب بأن المناسب على هذا ولا يوزر على وازرة وزر أخرى وإن تدع مثقلة إلى حملها أحدًا لا يحمل منه شيئًا، وأيضًا حق نفي الاجبار أن يتعرض له بعد نفي الاختيار، وقيل: أن الجملة الأولى كما دلت على أن المثقل بالذنوب لا يحمل أحد من ذنوبه شيئًا دلت على عدله تعالى الكامل، والجملة الثانية دلت على أنه لا مستغاث من هول ذلك اليوم أيضًا وهما المقصودان من الآيتين فالفرق باعتبار ذلك، ولعل ما ذكرناه أولا أولى، وذكر بعض الأفاضل في الجملة الأولى ثلاثة أسئلة قال في الأخيرين منها: لم أر من تفطن لهما وقد أجاب عن كل، الأول أن عدم حمل الغير على الغير عام في النفس الآثمة وغير الآثمة فلم خص بالآثمة مع أن التصريح بالعموم أتم في العدل وأبلغ في البشارة وأخصر في اللفظ وذلك بأن يقال: ولا تحمل نفس حمل أخرى، وجوابه أن الكلام في أرباب الأوزار المعذبين لبيان أن عذابهم إنما هو بما اقترفوه من الأوزار لا بما اقترفه غيرهم، الثاني أن معنى وزر حمل الوزر لا مطلق الحلم على ما في النهاية الأثيرية حيث قال: يقال وزر يزر فهو وازر إذا حمل ما يثقل ظهره من الأشياء المثقلة ومن الذنوب فكيف صح ذكر وزر مع يزر وجوابه أنه من باب التجريد، الثالث أن {وازرة} يفهم من تزر كما يفهم ضارب من يضرب مثلا فأي فائدة في ذكره؟ وجوابه أنه إذا قيل ضرب ضارب زيدًا فالذي يستفاد من ضرب إنما هو ذات قام بها ضرب حدث من تعلق هذا الفعل بتلك الذات ولما عبر عن شيء بما فيه معنى الوصفية وعلق به معنى مصدري في صيغة فعل أو غيرها فهم منه في عرف اللغة أن ذلك الشيء موصوف بتلك الصفة حال تعلق ذلك المعنى به لا بسببه كما حققه بعض أجلة شراح الكشاف فيجب أن يكون معنى ضارب في المثال متصفًا بضرب سابق على تعلق ضرب به وكذا يقال في {وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ} وهذه فائدة جليلة ويزيدها جلالة استفادة العموم إذا أورد اسم الفاعل نكرة في حيز نفي، وبذلك يسقط قول العلامة التفتازاني إن ذكر فاعل الفعل بلفظ اسم فاعله نكرة قليل الجدوى جدًّا انتهى.
وأنت تعلم أنه من مجموع الجملتين يستفاد ما ذكره في السؤال الأول من العموم، وفي خصوص هاتين الجملتين وذكرهام معًا ما لا يخفى من الفائدة، وفي القاموس وزره كوعده وزرا بالكسر حمله، وفي الكشاف وزر الشيء إذا حمله، ونحوه في البحر، وعلى ذلك لا حاجة إلى التجريد فلا تغفل، وأصل الحمل ما كان على الظهر من ثقيل فاستعير للمعاني من الذنوب والآثام.
وقرأ أبو السمال عن طلحة وإبراهيم عن الكسائي {لاَّ تَحْمِلُ} بفتح التاء المثناة من فوق وكسر الميم وتقتضي هذه القراءة نصب شيء على أنه مفعول به لتحمل وفاعله ضمير عائد على مفعول تدعو المحذوف أي وإن تدع مثقلة نفسًا إلى حملها لم تحمل منه شيئًا {وَلَوْ كَانَ} أي المدعو المفهوم من الدعوة {ذَا قربى} ذا قرابة من الداعي، وقال ابن عطية: اسم كان ضمير الداعي أي ولو كان الداعي ذا قرابة من المدعو، والأول أحسن لأن الداعي هو المثقلة بعينه فيكون الظاهر عود الضمير عليه وتأنيثه.
وقول أبي حيان ذكر الضمير حملا على المعنى لأن قوله تعالى: {مُثْقَلَةٌ} لا يراد بها مؤنث المعنى فقط بل كل شخص فكأنه قيل وإن يدع شخص مثقل لا يخفى ما فيه.
وقرىء ولو كان {ذُو قربى} بالرفع، وخرج على أن {كَانَ} ناقصة أيضًا و{ذُو قربى} اسمها والخبر محذوف أي ولو كان ذو قربى مدعوا، وجوز أن تكون تامة.
وتعقب بأنه لا يلتئم معها النظم الجليل لأن الجملة الشرطية كالتتميم والمبالغة في أن لا غياث أصلا فيقتضي أن يكون المعنى أن المثقلة إن دعت أحدًا إلى حملها لا يجيبها إلى ما دعته إليه ولو كان ذو القربى مدعوا، ولو قلنا إن المثقلة إن دعت أحدًا إلى حلمها لا يحمل مدعوها شيئًا ولو حضر ذو قربى لم يحسن ذلك الحسن، وملاحظة كون ذي القربى مدعوا بقرينة السياق أو تقدير فدعته كما فعل أبو حيان خلاف الظاهر فيخفى عليه أمر الانتظام {إِنَّمَا تُنذِرُ} الخ استئناف مسوق لبيان من يتعظ بما ذكر أي إنما تنذر بهذه الإنذارات ونحوها {الذين يَخْشَوْنَ رَبَّهُم بالغيب} أي يخشونه تعالى غائبين عن عذابه سبحانه أو عن الناس في خلواتهم أو يخشون عذاب ربهم غائبًا عنهم فالجار والمجرور في موضع الحال من الفاعل أو من المفعول {والذين يُمَسّكُونَ} أي راعوها كما ينبغي وجعلوها منارًا منصوبًا وعلماف مرفوعًا أي إنما ينفع إنذارك وتحذيرك هؤلاء من قومك دون من عداهم من أهل التمرد والعناد، ونكتة اختلاف الفعلين تعلم مما مر في قوله تعالى: {الله الذي أَرْسَلَ الرياح فَتُثِيرُ سحابا} [فاطر: 9] فتذكر ما في العهد من قدم.
{وَمَن تزكى} تطهر من أدناس الأوزار والمعاصي بالتأثر من هذا الإنذارات {فَإِنَّمَا يتزكى لِنَفْسِهِ} لاقتصار نفعه عليها كما أن من تدنس بها لا يتدنس إلا عليها، والتزكي شامل للخشية وإقامة الصلاة فهذا تقرير وحث عليهما.
وقرأ العباس عن أبي عمرو {وَمِنْ يزكى فَإِنَّمَا يزكى} بالياء من تحت وشد الزاي فيهما وهما مضارعان أصلهما ومن يتزكى فإنما يتزكى فادغمت التاء في الزاي كما أدغمت في {يذكرون}.
وقرأ ابن مسعود وطلحة {وَمِنْ أزكى} بادغام التاء في الزاي واجتلاب همزة الوصل في الابتداء، وطلحة أيضًا {فَإِنَّمَا تزكى} بادغام التاء في الزاي {وإلى الله المصير} لا إلى أحد غيره استقلالًا أو اشتراكًا فيجازيهم على تزكيهم أحسن الجزاء. اهـ.

.قال صاحب روح البيان:

{يا أَيُّهَا النَّاسُ أَنتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ}.
الفقراء جمع فقير كالفقائر جمع فقيرة والفقير المكسور الفقار والفقر ذكره في تاج المصادر في باب ضرب وجعله في القاموس من حد كرم.
وقال الراغب في المفردات: يقال افتقر فهو مفتقر وفقير ولا يكاد يقال فقر وإن كان القياس يقتضيه انتهى.
وفهم من هذا أن الفقير صيغة مبالغة كالمفتقر بمعنى ذي الاحتياج الكثير والشديد والفقر وجود الحاجة الضرورية وفقد ما يحتاج إليه وتعريف الفقراء للمبالغة في فقرهم فإنهم لكثرة افتقارهم وشدة احتياجهم هم الفقراء فحسب وأن افتقار سائر الأخلاق بالنسبة إلى فقرهم بمنزلة العدم.
والمعنى يا أيها الناس أنتم المحتاجون إلى الله تعالى بالاحتياج الكثير الشديد في أنفسكم وفيما يعرض لكم من أمر مهم أو خطب ملم فإن كل حادث مفتقر إلى خالقه ليبديه وينشئه أولًا ويديمه ويبقيه ثانيًا ثم الإنسان محتاج إلى الرزق ونحوه من المنافع في الدنيا مع دفع المكاره والعوارض وإلى المغفرة ونحوها في العقبى فهو محتاج في ذاته وصفاته وأفعاله إلى كرم الله وفضله.
قال بعض الكبار: إن الله تعالى ما شرّف شيئًا من المخلوقات بتشريف خطاب أنتم الفقراء إلى الله حتى الملائكة المقربين سوى الإنسان وذلك أن افتقار المخلوقات إلى أفعال الله تعالى من حيث الخلق ونحوه وافتقار الإنسان إلى ذات الله وصفاته فجميع المخلوقات وإن كانت محتاجة إلى الله تعالى لكن الاحتياج الحقيقي إلى ذات الله وصفاته مختص بالإنسان من بينها كمثل سلطان له رعية وهو صاحب جمال فيكون افتقار جميع رعاياه إلى خزائنه وممالكه ويكون افتقار عشاقه إلى عين ذاته وصفاته فيكون غنى كل مفتقر بما يفتقر إليه فغنى الرعية يكون بالمال والملك وغنى العاشق يكون بمعشوقه.
ومن الكمالات الإنسانية الاحتياج إلى الاسم الأعظم من جميع وجوه الأسماء الإلهية بحسب مظهريته الكاملة وأما غيره من الموجودات فاحتياجهم إنما هو بقدر استعدادهم فهو احتياج بوجه دون وجه ولذا ورد الفقر فخري وبه افتخر وهذا صحيح بمعناه وإن اختلف في لفظه كما قال عليه السلام: «اللهم أغنني بالافتقار إليك ولا تفقرني بالاستغناء عنك».
قال في كشف الأسرار صحابه را فقرا نام نهاد حيث قال: {لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ} (الحشر: 8) وقال: {لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا في سَبِيلِ اللَّهِ} (البقرة: 273).
{وَاللَّهُ هُوَ} وحده {الْغَنِىُّ} المستغني على الإطلاق فكل أحد يحتاج إليه لأن أحدًا لا يقدر أن يصلح أمره إلا بالأعوان لأن الأمير ما لم يكن له خدم وأعوان لا يقدر على الأمارة وكذا التاجر يحتاج إلى المكارين والله الغنيّ عن الأعوان وغيرها.
وفي الأسئلة المقحمة معناه الغنيّ عن خلقه فلو لم يخلقهم لجاز ولو أدام حياتهم لابتلاهم كلفهم أو لم يكلفهم فالكل عنده بمثابة واحدة لأنه غني عنهم خلافًا للمعتزلة حيث قالوا: لو لم يكلفهم معرفته وشكره لم يكن حكيمًا وهذا غاية الخزي ويفضي إلى القول بأن خلقهم لنفع أو دفع وهو قول المجوس بعينه حيث زعموا وقالوا: خلق الله الملائكة ليدفع بهم عن نفسه أذى الشيطان انتهى {الْحَمِيدُ} المنعم على جميع الموجودات حتى استحق عليهم الحمد على نعمته العامة وفضله الشامل فالله الغنيّ المغني.
{إِن يَشَأْ} أي: الله تعالى: {يُذْهِبْكُمْ} عن وجه الأرض ويعدمكم كما قدر على إيجادكم وبقائكم {وَيَأْتِ} {بِخَلْقٍ} مخلوق {جَدِيدٍ} مكانكم وبدلكم ليسوا على صفتكم بل مستمرون على الطاعة فيكون الخلق الجديد من جنسهم وهو الآدمي أو يأتي بعالم آخر غير ما تعرفونه فيكون من غير جنسهم وعلى كلا التقديرين فيه إظهار الغضب للناس الناسين وتخويف لهم على سرفهم ومعاصيهم وفيه إيضًا من طريق الإشارة تهديد لمدعي محبته وطلبه أي: إن لم تطلبوه حق الطلب يفنكم ويأت بخلق جديد في المحبة والطلب.
{وَمَا ذَلِكَ} أي: ما ذكر من الإذهاب بهم والإتيان بآخرين {عَلَى اللَّهِ} متعلق بقوله: {بِعَزِيزٍ} بمعتذر ولا صعب ومتعسر بل هو هين عليه يسير لشمول قدرته على كل مقدور ولذلك يقدر على الشيء وضده فإذا قال لشيء كن كان من غير توقف ولا امتناع وقد أهلك القرون الماضية واستخلف الآخرين إلى أن جاء نوبة قريش فناداهم بقوله يا أيها الناس وبين أنهم محتاجون إليه احتياجًا كليًا وهو غني عنهم وعن عبادتهم ومع ذلك دعاهم إلى ما فيه سعادتهم وفوزهم وهو الإيمان والطاعة وهم مع احتياجهم لا يجيبونه فاستحقوا الهلاك ولم يبق إلا المشيئة ثم إنه تعالى شاء هلاكهم لإصرارهم فهلك بعضهم في بدر وبعضهم في غيره من المعارك وخلق مكانهم من يطيعونه تعالى فيما أمرهم به ونهاهم عنه ويستحقون بذلك فضله ورحمته واستمر الإفناء والإيجاد إلى يومنا هذا لكن لا على الاستعجال بل على الإمهال فإنه تعالى صبور لا يؤاخذ العصاة على العجلة ويؤخر العقوبة ليرجع التائب ويقلع المصر.
ففي الآية وعظ وزجر لجميع الأصناف من الملوك ومن دونهم فمن أهمل أمر الجهاد لم يجد المهرب من بطش رب العباد ومن ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فقد جعل نفسه عرضة للهلاك والخطر وعلى هذا فقس.
فينبغي للعاقل المكلف أن يعبد الله ويخافه ولا يجترىء على ما يخالف رضاه ولا يكون أسوأ من الجمادات مع أن الإنسان أشرف المخلوقات.
قال جعفر الطيار رضي الله عنه: كنت مع النبي عليه السلام وكان حذاءنا جبل فقال عليه السلام: «بلّغ منّي السلام إلى هذا الجبل وقل له يسقيك إن كان فيه ماء» قال: فذهبت إليه وقلت: السلام عليك أيها الجبل فقال الجبل بنطق: لبيك يا رسول رسول الله فعرضت القصة فقال: بلّغ سلامي إلى رسول الله وقل له منذ سمعت قوله تعالى: {فَاتَّقُوا النَّارَ التي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ} (البقرة: 24) بكيت لخوف أن أكون من الحجارة التي هي وقود النار بحيث لم يبق فيّ ماء.
{وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى}.
يقال وزر يزر من الثاني وزرًا بالفتح والكسر ووزر يوزر من الرابع حمل.
والوزر الإثم والثقل والوازرة صفة للنفس المحذوفة وكذا أخرى والمعنى لا تحمل نفس آثمة يوم القيامة إثم نفس أخرى بحيث تتعرى منه المحمول عنها بل إنما تحمل كل منهما وزرها الذي اكتسبته بخلاف الحال في الدنيا فإن الجبابرة يأخذون الولي بالولي والجار بالجار وأما في قوله تعالى: {وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالا مَّعَ أَثْقَالِهِمْ} (العنكبوت: 13) من حمل المضلين أثقالهم وأثقالًا غير أثقالهم فهو حمل أثقال ضلالهم مع أثقال إضلالهم وكلاهما أوزارهم ليس فيها شيء من أوزار غيرهم ألا يرى كيف كذبهم في قولهم: {اتَّبِعُوا سَبِيلَنَا وَلْنَحْمِلْ خَطَايَاكُمْ} (العنكبوت: 12) بقوله: {وَمَا هُم بِحَامِلِينَ مِنْ خَطَايَاهُم مِّن شَىْءٍ} (العنكبوت: 12) ومنه يعلم وجه تحميل معاصي المظلومين يوم القيامة على الظالمين فإن المحمول في الحقيقة جزاء الظلم وإن كان يحصل في الظاهر تخفيف حمل المظلوم ولا يجري إلا في الذنب المتعدي كما ذكرناه في أواخر الأنعام.